العدل في القضاءالعدل في القضاءإن كنا نعجب من مواقف عدل الرسول التي مرَّت بنا في المقالات السابقة، فالعجب كل العجب من مواقف رسول الله عندما يحكم بين مسلم وغير مسلم؛ فالعدل عنده أمر مُطلق لا يتوقف عند أصحاب الأديان والأجناس والعصبيات والمصالح المخالفة، ولا غير ذلك من الوشائج الأرضية والعلاقات الدنيوية.
وأمثال هذه المواقف في السيرة النبوية كثيرة..
رسول الله وبنو أبيرق واليهودي
منها ما حدث عندما سرق رجل من المسلمين من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث، وكان اسمه في رواية: «طعمة بن أبيرق»، وفي رواية أخرى: «بشير بن أُبيرق»، وكان هذا الرجل قد سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له: «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: «زيد بن السمين»، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره. فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!! فجاء بنو ظفر -وهم قوم طعمة- إلى رسول الله ، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي، فأنزل الله هذه الآيات من سورة النساء:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} إلى قوله تعالى: {
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 105- 112]
لقد اعتقد رسول الله أن السارق هو اليهودي لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم شيئًا -وحاشاه- بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أن اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!!
وليس الأمر هينًا..!!
إن التبرئة تأتي في حق يهودي اجتمع قومه من اليهود على تكذيب الإسلام، والكيد له، والطعن في رسوله ، وبثِّ الفرقة بين أتباعه.. ومع ذلك، فكل هذه السلبيات والخلفيات لا تبرِّر اتهام يهودي بغير حق.
وهذا الاتهام في حق رجل مسلم من إحدى قبائل الأنصار، وما أدراك من هم الأنصار!! هم الذين آووا ونصروا، وهم كَرِشُ الرسول وعيبته، وهم أهل دار الإسلام، وعلى أكتافهم قامت الدولة الإسلامية، ولكن كل هذا ليس مبررًا لتبرئة سارقٍ منهم، ولو كان على حساب يهودي.
إضافةً إلى أن هذا الموقف قد يُعطي مساحة جديدة لليهود يكيلون فيها التُّهم والادعاءات للمسلمين: فها هم المسلمون يسرقون، وها هم يرمون الأبرياء بالتهم، وها هم يجتمعون على نصرة ظالم، وها هم يكذبون. إنها مِساحة واسعة قد أُتيحت لليهود؛ ليواصلوا طعنهم في جسد الأمة الإسلامية.
برغم هذه الخلفيات، كان لا بُدَّ من إحقاق الحق وإقامة العدل.
إن الأمر لم يكن مجرد تبرئة رجل وإدانة آخر، «إنما كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة؛ لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية، وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض، ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوِّق على كل ما تعرف البشرية، وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يُمَحَّصَ كيانُها تمحيصًا شديدًا، وتُنْفَضَ عنه كل خبيئة من ضعف البشر، ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل -لتحكم به بين الناس- مجردًا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئًا كبيرًا لا يقدرون على تجاهله!»
ونتساءل من جديد -وسيكثر هذا التساؤل- هل هناك مثل هذه المواقف في تاريخ أمة غير أمة الإسلام؟!! هل بلغ أي قائد من قوَّاد الأرض مثلما بلغ رسولنا من التجرُّد للحق، وإظهار العدل وتطبيقه، ومن السماحة والأمانة في التعامل مع غير أتباع دينه؟!!
رواية الترمذي لقصة بني أبيرق
ومن الجدير بالذكر في القصة السابقة أن نذكر أن هذا المسلم الذي قام بالسرقة -واتَّهم بها اليهودي- كان من المنافقين الذين ظهر نفاقهم وتأكَّد بعد هذه الحادثة، وهذا واضح فيما رواه الترمذي عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيتٍ منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقًا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا. فإذا سمع أصحاب رسول الله ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث -أو كما قال الرجل- وقالوا: ابن الأبيرق قالها. قال: وكان أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها، فخص بها نفسه وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مَشْربة له، وفي المشربة سلاح: درع وسيف، فعُدي عليه من تحت البيت فنُقبت المشربة وأُخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه ونُقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا. فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. قال: وكان بنو أبيرق قالوا -ونحن نسأل في الدار-: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل -رجلاً منا له صلاح وإسلام- فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟! فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينُنَّ هذه السرقة. قالوا: إليك عنها أيها الرجل، فما أنت بصاحبها.
فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبي : «سَآمُرُ فِي ذَلِكَ». فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك؛ فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله فكلمته، فقال: «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَلاَ بَيِّنَةٍ». قال: فرجعتُ ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله ، فقال: الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن {
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
فلما نزل القرآن أتى رسول الله بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا قد عمي أو عشي في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. فعرفتُ أن إسلامه كان صحيحًا، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلاقة بنت سعد بن سمية فأنزل الله: {
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 115، 116].
فلما نزل على سلاقة رماها حسان بن ثابت t بأبيات من شعره، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟! ما كنت تأتيني بخير. بل إنه -في بعض الروايات- هرب إلى مكة مرتدًّا، ومات بها
وإذا كان هذا الحكم العادل قد جاء في حق اليهودي على حساب مسلم ضعيف الإيمان مذبذب العقيدة، فإن هذا الحكم لم يصدر لشكٍّ في إيمان المسلم وعقيدته، بل كان سيصدر مهما كان المخطئ؛ لأن الشريعة لا تُحابي أحدًا، والرسول لا يجامل أصحابه ومعارفه.
قصة جابر بن عبد الله ويهودي
وإن شئت الإيضاح أكثر لهذا المعنى، والتأكيد بصورة أعمق لهذه الحقيقة، فراجع هذه القصة العجيبة التي حدثت بين يهودي وأحد الصحابة المكرمين، والذي كان مقرَّبًا جدًّا إلى قلب رسول الله ، وهو جابر بن عبد الله بن حرام –رضي الله عنهما، وهو من الصحابة الكرام الذين حضروا بيعة العقبة الثانية في طفولته مع أبيه «عبد الله بن حرام»، وشهد المشاهد كلها ابتداءً من أُحد أو التي عدها
يروي جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- فيقول: «كان بالمدينة يهودي، وكان يسلفني في تمري إلى الجِداد -وكانت لجابرٍ الأرض الَّتي بطريق رومة- فجلستُ، فخلا عامًا، فجاءني اليهوديُّ عند الجِداد، ولم أجدَّ منها شيئًا، فجعلتُ أستنظره إلى قابل فيأبى، فأُخبر بذلك النبي ، فقال لأصحابه: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ الْيَهُودِيِّ».
فجاءوني في نخلي، فجعل النبي يُكلِّم اليهوديَّ، فيقول: أبا القاسم، لا أنظره.
فلمَّا رأى النبي قام فطاف في النخل، ثمَّ جاءه فكلَّمه فأبى، فقمتُ فجئتُ بقليل رطبٍ فوضعته بين يدي النبي ، فأكل ثمَّ قال: «أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟» فأخبرتُه، فقال: «افْرُشْ لِي فِيهِ». فَفَرَشْتُهُ، فدخل فرقد ثمَّ استيقظ، فجئتُه بقبضةٍ أخرى، فأكل منها ثمَّ قام فكلَّم اليهوديَّ فأبى عليه، فقام في الرِّطاب في النَّخل الثَّانية ثمَّ قال: «يَا جَابِرُ، جُدَّ وَاقْضِ». فوقف في الجداد فجددت منها ما قضيته، وفضل منه، فخرجت حتى جئت النبي فبشَّرته، فقال: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»
فهذه قصة عجيبة يستدين فيها جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- من يهودي، فيأتي ميعاد سداد الدين، وليس مع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ما يقضي به دَينه، فجعل يطلب من اليهودي أن يؤخره عامًا حتى يستطيع السداد -وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من الفقراء المدينين- لكن اليهودي أَبَى وأصرَّ على أن يأخذ دَينه في موعده، فأخبر جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- رسولَ الله بالأمر، وطلب منه أن يتوسط بينه وبين اليهودي، وقام رسول الله بالفعل، بل أخذ معه بعضًا من أصحابه، وذهب إلى اليهودي يستشفع لجابر، فيقول جابر t: فجعل رسول الله يكلِّم اليهودي. أي أنه أكثر في الكلام والاستشفاع عنده، لكن اليهودي رفض بكل وسيلة، وكان مصرًّا على قوله: أبا القاسم، لا أنظره.
هذا موقف يقع فيه أحد الأصدقاء المقربين إلى قلب من يحكم المدينة المنورة بكاملها في أزمة مع أحد رعايا هذه المدينة وهو اليهودي، إنه يريد تأجيل سداد الدين وليس المماطلة فيه أو التغاضي عنه، والرسول بنفسه يستشفع له، ولكن اليهودي يرفض، ومع ذلك لم يجبر زعيم الأمة الإسلامية وقائد المسلمين ورسول ربِّ العالمين ذاك اليهوديَّ أو يُكْرِهْهُ على قبول استشفاعه!
لم ينظر رسول الله هنا إلى صورته التي قد يستضعفها المراقبون والمحللون للموقف، ولم ينظر إلى حبِّه لجابر بن عبد الله وقُرْبِهِ من قلبه، ولم ينظر إلى تاريخ اليهود العدائي مع المسلمين؛ لم ينظر إلى كل هذه الاعتبارات ولا إلى غيرها، إنما نظر فقط إلى إقامة العدل في أسمى صوره.
إن الحق مع اليهودي، والسداد واجب، والاستشفاع مرفوض من صاحب الحق، فليكن السداد، وليكن الإنصاف لليهودي غير المسلم، ولو كان من صحابي جليل وابن صحابيٍّ جليلٍ.
إن هذا هو الإسلام حقًّا..
لم يكن هذا تكلفًا من الرسول ، ولا تجملاً منه، إنما كان التطبيق الطبيعي لقواعد الدين.
يقول تعالى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
إن الشفقة على جابر لفقره لم تكن مبررًا للحكم له ضد اليهودي.
يقول الشوكاني في فتح القدير في تفسير هذه الآية {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}: «إن يكن المشهود عليه غنيًّا فلا يُراعى لأجل غناه استجلابًا لنفعه أو استدفاعًا لضره؛ فيترك الشهادة عليه، أو فقيرًا فلا يُراعَى لأجل فقره؛ رحمةً له وإشفاقًا عليه، فيترك الشهادة عليه»