بقلم: د. عماد عجوة
ليس هناك من شخصية في التاريخ الإسلامي المعاصر لقيت من الظلم والإجحاف والافتراء بقدر ما لقيت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني السلطان الرابع والثلاثون من السلاطين العثمانيين، حاول أعداؤه اليهود والأرمن والاتحاديون تشويه فترة حكمه، ولكنَّ التاريخ أبى إلاَّ أن يقول كلمته في حقِّ هذا الرجل الذي صمد في وجه اليهود والقوى الدولية الغاشمة صمود الأبطال، وهو صابر محتسب حتى خُلع عن عرشه.
نشأته وتربيته
ولد السلطان عبد الحميد الثاني يوم الأربعاء في 22 سبتمبر عام 1842م، توفيت والدته، وهو في الثامنة من عمره، فاحتضنته الزوجة الثانية لوالده، التي كان معروفًا عنها أنّها شديدة التديُّن، وأسبغت عليه كل حنانها وعطفها، وقد بادلها عبد الحميد هذا الحب، وأعجب بوقارها وتدينها وصوتها الخفيض الهادئ، فكان يقول عنها: "لو كانت والدتي حيَّة لما استطاعت أن ترعاني أكثر من رعايتها"، وعندما توفيت أوصت بجميع ثروتها له، وكان لتربيتها له انعكاس على شخصيته طوال عمره.
نشأ السلطان عبد الحميد وترعرع في دار الخلافة العثمانية، وقضى شبابه يطلب العلم، فقد درس وتعلم اللغة التركية والفارسية والعربية والفرنسية، ودرس كثيرًا من الكتب الأدبية على أيدي أساتذة ونخبة مختارة من رجالات زمنه علمًا وخلقًا، وكان يقول الشعر، كما كان شغوفًا بقراءة كتب التاريخ، ومنها تاريخ الدولة العثمانية، إضافةً إلى حبِّه الشديد للمطالعة، وتعمق في علم الصرف، حتى إنّه أمر بترجمة المقالات والمجلات والصحف الأجنبية التي ترد إليه؛ ليتمكّن من قراءتها، أمّا بالنسبة لهواياته فهي متعدّدة؛ منها: المبارزة بالسيف، والتهديف بالمسدس، والسباحة، والتجديف بالقارب، وركوب الخيل، والصيد، كما كان شَغوفًا بجمع الأسلحة النادرة، أمّا أبرز هواياته فكانت النجارة، قدَّم خدمات جليلة للدولة العثمانية في مختلف المجالات، ويعتبر أعظم سلطان في عصر انحطاط الدولة.
وعُرِف السلطان عبد الحميد بتقواه وتمسُّكه بالدين، ولم يُعرف عنه تركه للصلاة قط أو إهماله للتعبّد، وتقول عنه ابنته عائشة: "كان والدي يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويقرأ القرآن الكريم، وفي شبابه سلك مسلك الشاذلية، وكان كثير الارتياد للجوامع لا سيما في شهر رمضان".
واتسمت حياته بالبساطة الشديدة، والابتعاد عن البذخ والإسراف والتبذير، واستمرّت بساطته حتى في أيام السلطنة، وامتاز عن أسلافه من السلاطين بأنه لم يستدن قرشًا واحدًا من أحد، وبهذا عصم نفسه من أن يقع في حبائل أصحاب البنوك وجُلّهم من اليهود، ولكن أعداءه لم يتركوا الفرصة دون أن يقلبوا هذه الخصلة الحميدة إلى مذمّة، فأطلقوا عليه في كتاباتهم لقب "عبد الحميد البخيل".
توليه السلطنة وضبط أمور الخلافة
أصدر شيخ الإسلام في دار الخلافة العثمانية فتواه التاريخية بعزل السلطان مراد الخامس وتعيين شقيقه الأصغر عبد الحميد الثاني خليفة على المسلمين، وتبوَّأ السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة يوم الخميس في 31 أغسطس 1876م، وقبل أن يباشر السلطان مهامه الجديدة صلى لله تعالى ركعتين شكرًا في جامع أبي أيوب الأنصاري، وهناك تسلم من شيخ الإسلام سيف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو سيف الخلافة، وهي بداية طيبة تدل على اعتزازه بدينه الإسلامي.
وأوضاع البلاد يومئذٍ على أسوأ حال، حيث كانت في منتهى السوء والاضطراب، سواء في ذلك الأوضاع الداخلية والخارجية، أما الأوضاع الخارجية فقد اتفقت الدول الغربية واليهود على الإجهاز على الدولة التي أسموها "تركة الرجل المريض"، ومن ثم تقاسم أجزائها.
وأما الأوضاع الداخلية: فقد أفلست خزينة الدولة وتراكمت الديون عليها، حيث بلغت الديون ما يقرب من ثلاثمائة مليون ليرة، كما ظهر التعصب القومي والدعوات القومية والجمعيات ذات الأهداف السياسية كجمعية الاتحاد والترقي، بإيحاء من الدول الغربية المعادية، وكان لليهود فيها دور كبير، خاصة يهود الدَوْنَمة، إلى جانب وجود رجال كان لهم دور خطير في الدولة، فقد فُتنوا بأوروبا وبأفكارها، وكانوا بعيدين عن معرفة الإسلام، ويطالبون بوضع دستور للدولة على نمط الدول الأوروبية النصرانية، ويرفضون العمل بالشريعة الإسلامية.
كل هذه الظروف القاسية كادت تعصف بالدولة العثمانية، وفي وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة، كان عليه أن يسير بالدولة إلى شاطئ النجاة والأمان دون أن يعرضها للخطر، وقد أدرك السلطان عبد الحميد بما أنعم الله عليه من ذكاء وفطرة أهداف الأعداء وأطماعهم، فتحمل المسئولية بكل قوة وحكمة، فعمل على إعادة الهيبة إلى الخلافة كما كانت في عهودها الأولى، لذلك أوّل ما فعله السلطان عبد الحميد أنّه سعى إلى رأب الصدع، فجرى على سياسة الاقتصاد من أجل تحرير رقبة بلاده من قبضة الدول والمصارف الأجنبية، حتى إنِّه تبرّع من ماله الخاص من أجل هذا الغرض، فاستطاع تسديد القسم الأكبر من تلك الديون، وفي عهده تخرج جيلٌ كامل من المثقفين والمتعلمين من كليات وجامعات ومعاهد أسسها السلطان، وبدأت الدلائل تشير إلى عودة الصحة والعافية إلى جسد الرجل المريض.
قرَّب إليه الكثير من رجال العلم والسياسة المسلمين واستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، وعمل على تنظيم المحاكم والعمل في "مجلة الأحكام العدلية" وفق الشريعة الإسلامية، حاول كسب بعض المناوئين له واستمالتهم إلى صفِّه بكل ما يستطيع، وقام السلطان عبد الحميد ببعض الإصلاحات العظيمة، مثل القضاء على معظم الإقطاعات الكبيرة المنتشرة في كثير من أجزاء الدولة، والعمل على القضاء على الرشوة وفساد الإدارة، وعامل الأقليات والأجناس غير التركية معاملة خاصة، مثل الأرمن، واليهود، وذلك لكي لا يترك أي ثغرة تنفذ منها الدول النصرانية للتدخل في شئون الدولة.
حبه للعلم والعلماء
اتسمت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني بتقدير العلماء وإنشاء المدارس والمساجد، وإعطاء الحقوق للطوائف الأخرى، حتى حاز محبَّة الناس وثقتهم، واهتم بنشر التعليم المدني بجميع مراحله وأنواعه، وأنشأ جامعة إسطنبول سنة 1885م، والتي كانت تعرف أولاً باسم (دار الفنون)، كما أنشأ دورًا للمعلمين ومعاهد فنية ومدارس ابتدائية وثانوية مدنية، واهتم بالتعليم العسكري، وأنشأ المكتبات ومدرسة خاصة لتخريج الدعاة، كما قام بحرق الكتب الدينية التي كانت مليئة بالخرافات والأساطير وتمسُّ عقيدة المسلمين، فأمر وزارة المعارف بجمعها، وشكلت لجنة من العلماء لفرزها وأمر بها فأُحرقت، وجعل السلطان عبد الحميد مدارس الدولة تحت رقابته الشخصية ووجهها لخدمة الجامعة الإسلامية.
واهتم بالمرأة وجعل للفتيات دارًا للمعلمات ومنع اختلاطهن بالرجال، وكان يرد على معارضيه بأنه عدو للعقل بقوله: "لو كنت عدوًّا للعقل والعلم فهل كنت أفتح الجامعة؟ ولو كنت هكذا عدوًّا للعلم؟ فهل كنت أنشئ لفتياتنا اللواتي لا يختلطن بالرجال دارًا للمعلمات؟!، كما حارب السلطان ظاهرة السفور، وهاجم تسرب أخلاق الغرب إلى بعض النساء العثمانيات، وأعطى مهلة شهرًا يمنع بعده سير النساء في الشوارع إلا إذا ارتدين الحجاب الإسلامي القديم.
أعطى السلطان عبد الحميد للعلماء حقهم، فكان لا يقطع أمرًا دونهم، ويحرص على استشارتهم والأخذ بآرائهم.
صفاته وأخلاقه
من أهم صفات السلطان عبد الحميد الرحمة والتسامح، بل لعلّ صفة الرحمة الزائدة عن الحدِّ كانت نقطة الضعف عنده، ويكفي القول: إنّ المؤرخين يذكرون أنّ السلطان كان يُبدِّل على الدوام حكم الإعدام الذي يُصدره القاضي إلى السجن المؤبد أو إلى مدّة أقل، ولم يقم بمعاقبة وإعدام معارضيه من السياسيين والساعين إلى قلب نظام الحكم وأكثرهم من الاتحاد والترقي الذين ينتسبون إلى الماسونية، كما أُشيع.
السلطان عبد الحميد ووحدة المسلمين
السلطان عبد الحميد معروف بسياسته الإسلامية، وكان يرى أن خلاص الدولة العثمانية وقوتها في اتباع ما جاء في القرآن والسُّنَّة، فقام بإرسال الدعاة المسلمين مع المئات بل الآلاف من الكتب الإسلامية إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، للدعوة إلى الوحدة الإسلامية والانضواء تحت لواء الجامعة الإسلامية، لجمعهم تحت راية واحدة ونشر شعاره المعروف: "يا مسلمي العالم اتحدوا"، "يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة، ووقتها لم يحن بعد، لكنه سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون نهضة واحدة، ويقومون قومة رجل واحد يحطمون رقبة الكفار"، لكن قوى الغرب قامت لمناهضة تلك الدعوة ومهاجمتها.
حرص على إتمام مشروع خط السكة الحديدية التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة لِمَا كان يراه من أن هذا المشروع فيه تقوية للرابطة بين المسلمين، تلك الرابطة التي تمثل صخرة صلبة تتحطم عليها كل الخيانات والخدع الإنجليزية، على حدِّ تعبير السلطان نفسه.
السلطان عبد الحميد الثاني وقضية فلسطين
أمَّا بالنسبة لموقفه تجاه فلسطين، فلقد حاول الصهاينة عن طريق زعيمهم الماكر هرتزل استمالة السلطان عبد الحميد الثاني، حتى يسمح لهم بإقامة وطن لليهود في فلسطين.
فعرضوا عليه مبلغًا ضخمًا من المال يُقدر بثلاثة ملايين من الجنيهات، بالإضافة إلى دفع مبلغ كبير للدولة العثمانية سنويًّا مقابل أن يصدر السلطان عبد الحميد قرارًا يسمح فيه لليهود بالهجرة إلى فلسطين والتوطن فيها، وهنا قال السلطان عبد الحميد قولته الخالدة التي سجلها التاريخ بمداد من ذهب: "لست مستعدًّا لأن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد، فهي ليست ملكي بل هي ملك لشعبي، روى ترابها بدمه، وليحتفظ اليهود بأموالهم، ولن يستطيعوا أخذ فلسطين إلا عند تشريح جثتي، وساعتها يأخذونها بلا ثمن، أما وأنا على قيد الحياة.. فلا".
واستمرت مكائد اليهود، فحاول هرتزل، أن يقدم عرضًا مغريًا جديدًا للسلطان، مستغلاً أن الدولة العثمانية كانت مدينة لأوروبا بمبلغ كبير من المال، وعرض اليهود تسديد هذه الديون مقابل تحقيق طلبهم، مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا، ولكن السلطان كان أثبت جأشًا وأقوى عزيمة فردهم من مجلسه وقال: "إن الديون ليست عارًا، ولكن العار أن أبيع أرضًا لليهود، فليحتفظ اليهود بأموالهم، فالدولة العثمانية لا يمكن أن تحتمي وراء حصون بنيت بأموال أعداء المسلمين".
واستمرت الدسائس والحيل الخبيثة، ففي عام 1902م طلب هرتزل من السلطان أن يسمح له بإنشاء جامعة عبرية في فلسطين يديرها أساتذة من بني صهيون، فرفض السلطان هذا العرض أيضًا، لأنه يعلم أن هذه الجامعة سوف تكون بداية لاحتلال الأرض، فأنكر جميع رسائلهم ورفض قبول هداياهم، وما وهن وما ضعف، وما استكان أمام الإغراء حينًا، والوعد والوعيد حينًا آخر، حتى أدرك اليهود في النهاية أنه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة، فإنَّ حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظل بعيد المنال.
ويَشهد لذلك ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، وما جاء في مذكّرات هرتزل نفسه الذي يقول بمناسبة حديثه عن مقابلته للسلطان: "ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم وقال: إذا تجزّأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فإنَّ عمل المِبْضَعِ في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون"، ثم أصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
اليهود وحملة التشويه للسلطان عبد الحميد
عندما أدركت القوى المعادية ولا سيما الصهيونية العالمية أنهم أمام خصم قوي وعنيد، وأنه ليس من السهولة بمكان استمالته إلى صفها، ولا إغرائه بالمال، وأنه ما دام على عرش الخلافة فإنه لا يمكن للصهيونية العالمية أن تحقق أطماعها في فلسطين، ولن تتمكن الدول الأوروبية أن تحقق أطماعها أيضًا في تقسيم الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان.
لذا قرروا الإطاحة به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى الشريرة التي نذرت نفسها لتمزيق ديار الإسلام، أهمها الماسونية، وجمعية الاتحاد والترقي، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية، ولعب يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان، وكان من وراء الجميع وكالة المخابرات المركزية البريطانية التي كانت تمسك الخيوط جميعها، فنفذوا مؤامراتهم بالقضاء على الخلافة الإسلامية، وأشاعوا الافتراءات لتشويه تاريخه وتهميش نضاله ضد الصهيونية العالمية وأعوانها؛ لأنه كشف مخططاتهم وفضح مؤامراتهم وقاومهم طيلة 33 سنة من تاريخ حُكمه، وتمكنوا من عزله وخلعه من منصبه عام 1908م.
وقد أشاع أعداؤه أنه وراء قتل أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ورميهم في بحر مرمرة، وأنه قام بمذابح ضد الأرمن الذين كان الروس والإنجليز يشجعونهم ضد الدولة العثمانية، ولكنَّ التاريخ أثبت أيضًا أن السلطان منها براء، وأن اليهود في الباب العالي كانوا وراء تلك المذابح، وأثبت التاريخ أن هذه الروايات ليس لها سند صحيح.
قال عنه المنصفون
هناك دومًا في كل زمان ومكان منصفون يُجري الله الحقّ على لسانهم ليُزهقوا به الباطل، وخصوصًا كُتَّاب الغرب الذين شهدوا بما أملاهم عليهم ضميرهم، فيذكر البروفيسور ورئيس جامعة بودابست اليهودي "أرمينيوس وامبري" الذي زار تركيا عام 1890م، والتقى السلطان، وقال : "السلطان عبد الحميد ذو إرادة حديدية، وعقل سليم... شخصية وخُلُق وأدب رفيع جدًّا، يعكس التربية العثمانية الأصيلة، ولا تحسبوا معلوماته الواسعة تخص الإمبراطورية العثمانية المنهكة وحدها، فمعلوماته حول أوروبا وآسيا وإفريقيا حتى حول أمريكا معلومات واسعة، وهو يراقب عن كثب جميع الحوادث في هذه الأماكن... والسلطان متواضع ورزين إلى درجة حيّرتني شخصيًّا، وهو لا يجعل جليسه يشعر بأنه حاكم وسلطان، كما يفعل كل الملوك الأوروبيين في كل مناسبة، يلبس ببساطة ولا يُحبُّ الفخفخة، أفكاره عن الدين والسياسة والتعليم ليست رجعية، ومع ذلك فإنَّه متمسك بدينه غاية التمسُّك، يرعى العلماء ورجال الدين، ولا ينسى بطريرك الروم من عطاءاته الجزيلة... إنَّ بعض ساسة أوروبا يريدون أن يصوروا السلطان متعصّبًا ضد المسيحيين، وليس هناك ادعاء فارغ أكثر من هذا الادعاء... الحقيقة أنني أستطيع أن أقول وبكلّ ثقة: إنه إذا استمر الأتراك بالسير في الطريق الذي رسمه هذا السلطان، وإذا لم يظهر عائق سياسي؛ فإنهم سيسترجعون مجدهم وقوتهم وأكثر من ذلك، فإنهم سيصلون إلى مستوى الدول الأوروبية في مجال الثقافة والاقتصاد في مدة قصيرة".
وصدق الله تعالى في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة).
أما العالم المجاهد جمال الدين الأفغاني فيقول: "إنّ السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر، لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة"، ويذكر البطريرك الماروني إلياس الحويك: "لقد عاش لبنان وعاشت طائفتنا المارونية بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام بعده".
وفاته
نتيجة لرفضه تسليم أرض فلسطين لليهود، خُلع السلطان عبد الحميد بمؤامرة من جمعية الاتحاد والترقي مع المنظمات اليهودية، وتمّ نفيه إلى "قصر ألاتيني" الذي كان يملكه شخص يهودي إمعانًا في إذلاله، حيث عاش معزولاً عن الناس، مُحاطًا بحراسة مشددة، وظل السلطان عبد الحميد الثاني في منفاه حتى لقي ربه في 27 ربيع الثاني سنة 1336هـ/10 فبراير 1918م، إثر نزيف داخلي، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين، بعد أن أدار شئون الدولة العثمانية لمدة أربعة وثلاثين عامًا، فكان من أطول سلاطين الدولة العثمانية حكمًا، كما كان من أكثر السلاطين الذين تمَّ الافتراء عليهم زورًا وبهتانًا.
وترك الدولة العثمانية تواجه أقدارها، تتلاعب بها أيدي الخائنين والحاقدين والطامعين، حتى حوَّلوا تركيا الدولة التي حضنت الخلافة الإسلامية قرونًا إلى دولة علمانية شرسة في محاربة الإسلام، وبفضل الله وعدله عادت تركيا إلى أحضان أمتها الإسلامية، وعاد الشعب التركي إلى نبع عقيدته الصافي بفضل مجهودات أبنائه، وعلى قمتهم حركة الإمام المصلح الكبير سعيد النورسي، وحزب السلامة، والمجاهد الكبير المغفور له نجم الدين أربكان وحزب الرفاه، ثم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، كل ذلك نخر في جسد وأعمدة العلمانية التركية.
خاتمة المطاف
لو ذكر فقط الموقف المشرِّف للسلطان عبد الحميد تجاه فلسطين، والذي بسببه حكم السلطان على نفسه بالنفي وعلى عرشه بالخلع، وعلى سمعته بالتشويه، وعلى تاريخ خلافته بالافتراء والتجريح، لكفى ذلك لجعله من الأبطال الذي يجب ألا تنساهم أمتنا خصوصًا اليوم... في زمنٍ عزَّ فيه الرجال أمثاله الذين لا يميلون حيث تميل بهم الريح،
يا مسلمون أعداء الأمة المسلمة هم هم لم يتغيروا، ولم يتبدلوا إنهم الأوروبيون الذين اغتصبوا أرض العراق وأفغانستان، واليهود الذين اغتصبوا وما زالوا أرض فلسطين وما زالوا يدمرون ويقتلون.
إنهم الفرق والأحزاب العلمانية والشيوعية والنُصريين والعلويين والشيعة والدروز الذين يتعاونون مع أعداء الأمة ويحاولون ضرب الوحدة الإسلامية، إن سرد الأحداث التاريخية يؤكد لنا أن الأعداء ومن يحالفونهم حريصون على زرع الفتنة وإثارة المشاكل والقلاقل؛ لضمان عدم استقرار الأحوال في ديار المسلمين، وما جنوب السودان والعراق وأفغانستان ولبنان عنا ببعيد.
إن الوحدة التي نادى بها السلطان عبد الحميد الثاني بين بلاد المسلمين هي طوق النجاة.
---------