لقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته ٬ والمنهاج المبين فى دعوته بقوله: “إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق “. فكأن الرسالة التى خطت مجراها فى تاريخ الحياة ٬ وبذل صاحبها جهدا كبيرا فى مد شعاعها وجمع الناس حولها ٬ لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم ٬ وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم ٬ حتى يسعوا إليها على بصيرة.. والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة ٬ ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها ٬ كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه ٬ هى تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة ٬ وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق ٬ مهما تغيرت أمامه الظروف.. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يُقبل الإنسان عليها بشغف ٬ ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة ٬ يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها ٬ فقال: “وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر”. فالإبعاد عن الرذائل ٬ والتطهير من سوء القول وسوء العمل ٬ هو حقيقة الصلاة ٬ وقد جاء فى حديث يرويه النبى عن ربه: “إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى ٬ ولم يستطل على خلقى ٬ ولم يبت مصرا على معصيتى ٬ وقطع النهار فى ذكرى ٬ ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ٬ ورحم المصاب والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب ٬ بل هى أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة ٬ وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. فتنظيف النفس من أدران النقص ٬ والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسع النبى صلى الله عليه وسلم فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: “تبسمك فى وجه أخيك صدقة ٬ وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ٬ وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة ٬ وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ٬ وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة” . وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التى رسمها الإسلام ٬ وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها. وكذلك شرع الإسلام الصوم ٬ فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة ٬ بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “ من لم يدع قول الزور ٬ والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه “ وقال: “ليس الصيام من الأكل والشرب ٬ إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ٬ أو تجهل عليك ٬ فقل: إنى صائم “ . والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذى كلف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية ٬ ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ ٬ إذ يقول الله تعالى فى الحديث عن هذه الشعيرة: “الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب”. هذا العرض المجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام ٬ وعرفت على أنها أركانه الأصيلة ٬ نستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها ٬ ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق “. فالصلاة والصيام والزكاة والحج ٬ وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام ٬ هى مدارج الكمال المنشود ٬ وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ٬ ولهذه السجايا الكريمة التى ترتبط نجها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة فى دين الله. فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه ٬ وينقى لبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى. قال الله عز وجل: “إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى و من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك جزاء من تزكى”.ضعف الخُلق دليل على ضعف الإيمان الإيمان قوة عاصمة عن الدنيا ٬ دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر ٬ يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر فى قلوبهم. وما أكثر ما يقول فى كتابه: “ يا أيها الذين آمنوا “ ثم يذكر بعدُ ما يُكلفهم به: “ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين “ مثلا.. وقد وضح صاحب الرسالة أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما ٬ وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ٬ أو فقدانه ٬ بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الصفيق الوجه ٬المعوج السلوك الذى يقترف الرذائل غير آبه لأحد ٬ يقول رسول الإسلام فى وصف حاله: “الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر”!. والرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء ٬ يحكم الدين عليه حكما قاسيا ٬ فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : “والله لا يؤمن ٬ والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال : الذى لا يأمن جاره بوائقه “!!. وتجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو ٬ ومجانبة الثرثرة والهذر يقول: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت “. وهكذا يمضى فى غرس الفضائل وتعهدها حتى تؤتى ثمارها ٬ معتمدا على صدق الإيمان وكماله.. على أن بعض المنتسبين إلى الدين ٬ قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ويظهرون فى المجتمع العام بالحرص على إقامتها وهم فى الوقت نفسه يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق.. إن نبى الإسلام توعد هؤلاء الخالطين ٬ وحذر أمته منهم. ذلك أن التقليد فى أشكال العبادات يستطيعه من لم يُشرب رُوحها ٬ أو يرتفع لمستواها.