ورود الحق المدير العام
عدد المساهمات : 73 تاريخ التسجيل : 28/06/2011
| موضوع: جهود النساء في طلب العلم 7/2/2011, 23:43 | |
| الحمد الله رب العالمين ، وبعد : فرض الله العلم على النساء، وألزمهن بتعلم أحكام دينهن بالجملة، مما تستقيم به حياتهن، وتنجو الواحدة فيهن به عند ربها تبارك وتعالى، وقد أخرج الطبراني في " المعجم الكبير " من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلب العلم فريضة على كل مسلم "، والنساء يدخلن في عموم هذا الحديث وأمثاله، إذ أن الخطاب العام في التشريع الإسلامي عند الأصوليين يشمل النساء كشموله للرجال، وإنما أتى بصيغة التذكير للغالبية، حيث أن جملة المخاطبين بالتشريع وقت تلقيه هم الذكور فناسب أن يكون بهذه الصيغة، والقاعدة: إذا خرج النص مخرج الغالب فلا مفهوم لقيده، أي: لا إعمال لمفهوم المخالفة فيه!
ومع ذلك: فقد روي هذا الحديث برواية: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " ، وهذه الزيادة: " ومسلمة " ليست في أي طريق من طرق هذا الحديث التي أوصلها جلال الدين السيوطي إلى خمسين طريقا ضمن جزئه في تخريج هذا الحديث، وبهذا جزم السخاوي في كتابه: " المقاصد الحسنة " وأشار إلى دخول النساء في خطاب طلب العلم بعموم الحديث، فليتنبه! والحديث حسنه جمع .. وأعله جمع.
لا علينا؛ فقد شعرت النساء في القرون المفضلة بحاجتهن إلى المعرفة العلمية، فجئن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبن منه مجلسا خاصا بهن، كما أخرج البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: "اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم _ حريصا على تعلميهن، فكان صلوات ربي وسلامه عليه يأمرهن ( حتى الحيض منهن، والبنات اللواتي قاربن البلوغ وهن العواتق ) أن يشهدن مجامع العلم والخير، ولم يدع عذرا حتى لمن لا تملك جلبابا لتخرج به، فقد أخرج البخاري ومسلم في " صحيحهما " من حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: " لتلبسها أختها من جلبابها " .
قال الحافظ ابن حجررحمه الله في " فتح الباري " : " وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد". ولذا وجد في صفحات التاريخ الإسلامي نوابغ من النساء في كافة الميادين العلمية، وتراجمهن حافلة في بطون أمهات الكتب، فوجد منهن الفقيهات.. والمفسرات.. والأصوليات.. والمحدثات.. والأديبات.. والشاعرات.. والعالمات في سائر علوم الدين واللغة، وصنف غير واحد من المحدثين والمؤرخين رسائل مفردة في أحوال النساء وأخبارهن؛ كأبي الحسن المعافري في كتابه: " تراجم شهيرات النساء "، وابن طيفور في كتابه: " بلاغات النساء " ، وابن عبد ربه الأندلسي في كتابه: " طبائع النساء وما جاء فيهن من عجائب وأخبار وأسرار"، و ابن المنجم البغدادي في كتابه: " النساء وما جاء فيهن "، وابن العمري في كتابه: " الروضة الفيحاء في تواريخ النساء "، ومن جياد ما صنفه الإمام محمد صديق حسن خان رحمه الله كتابه: " حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة "، وغير هذا كثير.
وكان في برهة من الزمن لا تزف العروس إلى بيت زوجها إلا وفي جهازها الكتب الشرعية النافعة، فقد ذكر شمس الدين الذهبي رحمه الله في كتابه " سير أعلام النبلاء " ضمن ترجمة الإمام إسماعيل بن يحيى المزني، صاحب الإمام الشافعي رحمهما الله: أن البكر ما كانت تزف إلا وفي جهازها كتاب: " مختصر المزني "، وهو من كتب الشافعية الشهيرة. وهذا يدل على شغف النساء بالعلم آنذاك، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها كما في " البخاري ": " يرحم الله نساء الانصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في دينهن " . مع أن النساء جبلن على الحياء، فهو الإيمان.. وخلق الإسلام، لكن في باب المعرفة التي تنجيهم عند الله طلبوا العلم، ومن هذا ما فعلته الحيية أم سلمة رضي الله عنها _ كما في " البخاري ": " جاءت أم سليم إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت، فقال النبي صلى الله علي وسلم: " إذا رأت الماء"، فغطت أم سلمة تعني وجهها، وقالت: أوتحتلم المرأة، فقال: " نعم تربت يمينك فبم يشبهها ولدها". ويصح في أمثالهن ما قاله حكيم الشعر العربي ، أبو الطيب المتنبي في " ديوانه " :
ولو كان النساء كمن فقدنا *** لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ***ولا التذكير فخر للهلال
وعليه : فأقولها مدوية النساء شقائق الرجال في التحمل والأداء؛ بل وفي علم الحديث خاصة، نعم امتياز معشر الرجال على النساء في الشهادة القضائية، حيث قبلت من رجل واحد عدل ثقة، وعدم قبولها إلا من شاهدتين ذواتا عدل؛ لكن مع هذا كانت النساء شقلئق الرجال، فالمرأة صنو الرجل في العلم، وقرينته في الطلب، ورصينته في التحصيل، وهكذا دواليك في باقي ضروب الأخذ والعطاء في المجالات العلمية الشرعية، وقد يشكل هذا وذلك أن محل الإشكال في كون شهادتها القضائية لا تعدل شهادة الرجل، فكيف تكون قرينته ورصينته في المجال العلمي والتحصيل المعرفي؟
هذا الإشكال ورد على فحل من فحول علماء المالكية ألا وهو: أبو العباس القرافي رحمه الله حيث بقي ما يقارب ثمان سنين وهو يفتش عن حل هذه العويصة ضمن مشروعه الجبار في كتابه: "الفروق " الموسوم بـ : " أنوار البروق في أنواء الفروق "، حتى طالع رحمه الله شرح أبي عبد الله المازري على كتاب " البرهان " لأبي المعالي الجويني، فوجد بغيته المنشودة ضمن فقرات من كلام أبي عبدالله المازري رحمه الله من العناية في التفريق بين الشهادة القضائية والراوية العلمية في حق النساء بما فيه كفاية.
واعلم رعاك الله أنك قد تجد بعضا من النساء تفوق الرجال في سعة الاطلاع، وكبير المعرفة، وجهد البحث والتحقيق، ورسوخ القدم في علوم الأصل والفرع، فقد كان هنالك عالمة فاضلة اسمها وقاية، كانت تقطن إحدى مدن ليبيا، وكان أفاضل العلماء عند ورود العويص من المباحث يتزاحمون على بابها، حتى جرى المثل على لسان علماء ليبيا في ذاك الوقت، قولهم: " تعالوا بنا نستشير وقاية، فعصابتها ( غطاء رأسها ) خير من عمائمنا" وذكر شمس الدين الذهبي _ رحمه الله _ جملة من أخذ عنهن الحديث وعلومه في كتابه: " معجم الشيوخ "، وتحسر رحمه الله على واحدة اسمها أم محمد سيدة بنت موسى المارنية المصرية رحمها الله فقد سافر من فلسطين إلى مصر لإجلها، فسبقه الكتاب إليها ولقيت ربها، فلم يدركها، وكان يصف شعوره في كتابه " تاريخ الإسلام " قائلا: " كنت أتلهف على لقياها ". ولمعرفة قدرهن عند السلف من الأصحاب رضوان الله عليهم وتابعيهم رحمهم الله تأمل ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث ثمامة بن حزن القشيري، قال: لقيت عائشة فسألتها عن النبيذ، فدعت عائشة جارية حبشية، وقالت: سل هذه فإنها كانت تنبذ لرسول الله" . وفي" الصحيحين " من حديث أبي سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وأبي هريرة جالس عنده، فقال : افتني قي امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس: آخر الآجلين، فقلت أنا : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ، فقال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي، يقصد أبا سلمة، فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت، فأنكحها رسول الله، وكان أبو السنابل ممن خطبها".
وللنساء أيضا القدرة على مشاركة الرجال في تحقيق العلم ونشره، والمناظرة في المسائل العلمية والمحاورة في البحوث الشرعية، فقد ثبت في " الصحيحين " أن أم الفضل بنت الحارث قطعت خلافا وقع بين أناس في صيام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم عرفة. حتى قال الحافظ ابن حجر العسقلاني _ رحمه الله _ في " فتح الباري ": " ومن فوائد الحديث المناظرة في العلم بين الرجال والنساء ". وفي " الصحيحين " من حديث عبدالله بن مسعود قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله "، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ومن هو في كتاب الله ؟! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! فقال: لئن قرأته لقد وجدته، أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت: بلى قال: فإنه قد نهى عنه قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه قال: فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها ( ما صاحبتها ).
ولا يبعد ما علمه القاصي والداني في فضل وعلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي كما قال محمد بن شهاب الزهري رحمه الل : " لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل ". حتى كانت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودون إليها في سائر المسائل؛ بل كانت تستدرك على أصحاب رسول الله، وقد جمع برهان الدين الزركشي رحمه الله هذه الوقائع المنثورة في كتابه الموسوم بـ : " الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة " .
إذن النساء شقائق الرجال في شتى الميادين العلمية، وسائر المباحث المرعية، فهن كالرجال في تحمل الحديث وروايته، وفي هذا يقول الإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في كتابه: " نيل الأوطار " : " أنه لم ينقل عن Hحد من العلماء أنه رد خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سنة تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة .. " . ومع هذا وذاك تسمع صوت نشاز يردد قول الشاعر وباطل ما قال : ما للنساء والكتابة ** والعمالة والخطابة هذا لنا ولهن منا ** أن يبتن على جنابة
ومن بابته قول المنفلوطي:
يا قوم لم تخلق بنات الورى ** لدرس والطرس وقال وقيل لنا علوم ولها غيرها ** فعلموها كيف نشر الغسيل والثوب والإبرة في كفها ** طرس عليه خط جميل
وكان هذا الوصف المقذع للنساء سببا ظاهرا لخروج دعاة الحداثة العصرية أمثال الدكتورة سعاد صالح الكويتية، حيث صنفت ديوانا شعريا اسمته بـ : " فتافيت امرأة " رصعت طليعته بقصيدة اسمها : " فيتو .. على نون النسوة " ، قالت فيها:
إن الكتابة إثم عظيم فلا تكتبي ** وإن الصلاة أمام الحروف حرام فلا تقربي
ونحن نقول: يا سعادة الدكتورة .. ومن ظن ظنها .. وقال بمثل ما قالته .. نقول لكم: هذا ليس عندنا بل هو موجود في قدواتكم .. حيث أمر الملك هنري الثامن بمنع النساء من قراءة العهد الجديد ( الإنجيل ) ونحن نفتخر بأننا وضعنا دستورنا في حوزة امراءة، فقد ثبت عند ابن أبي داود في كتابه: " المصاحف " أن المسلمين وضعوا المصحف بعد جمعه عند حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها. بل وثبت عند البخاري في " الأدب المفرد " : أن عائشة بنت طلحة كانت تكتب للناس في الأمصار على سمع أم المؤمنين عائشة وبصرها وكان النبي _ صلى الله عليه وسلم من أحرص الناس على تعليم أهله، فقد ثبت في " مسند الإمام أحمد " من حديث الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة ". وفي هذا يقول ابن القيم في كتابه " زاد المعاد " : " في الحديث دليل على جواز تعليم النساء الكتابة " ومن لطيف الاستدلال على تعليم الرجل أهل بيته ، ما ذكره ثناء الله الألوسي في تفسيره " روح المعاني " عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } قال: " واستدل به على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وادخل بعضهم الأولاد في النفس، لأن الولد بعض من أبيه " . وأما ما ورد في منع النساء من الكتابة عن رسول الله فضعيف لا يصح، فضلا عن معارضته لما سبق بيانه وبالحق تبيانه، ومثاله: ما أخرجه الحاكم في " مستدركه " والطبراني في " الأوسط " أن رسول الله قال: " لا تعلمونهن الكتابة، وعلمونهن الغزل وسورة النور " فهذا حديث ضعيف لا يستقيم، في إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كذاب كما قال الدارقطني رحمه الله.
وما ورد أيضا عند الديلمي في " مسند الفردوس " أن عائشة رضي الله عنها قالت: " إذا رأيتم النساء يجلسن على الكراسي، ويقلن: حدثنا وأخبرنا، فأحرقوها بالنار، فإني سمعت رسول الله يقول: " إذا كان آخر الزمان يجلس العلماء والفقهاء في البيوت وتظهر النساء ويقلن: حدثنا وأخبرنا، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فأحرقوهن بالنار" ، وهذا كسابقه لا يصح عن رسول الله، آفته محمد بن علي الهاشمي، فضلا أن عائشة هنا حسب الراوية تحدث عن رسول الله، أفلا تدخل في الوعيد، فهذه قاطعة على بطلانه ولكن، يجدر التنبيه أن أي أثر ثبت عن بعض السلف رحمهم الله _ في منع النساء من الكتابة، فإنما يحمل على علمهم بحال آحاد بعض النساء أو علمهم بحال قسم من النساء لهن طبع الإفساد إن تعلمن الكتابة، ولا نبتعد فقد نهى السلف رحمهم الله أن يعلم العلم لسفلة الرجال ومؤنثهم، حتى عقد ابن عبد البر الأندلسي رحمه الله في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " بابا ترجم له بقوله: " باب حال العلم إذا كان عند الفساق والأراذل " ساق تحته ما به كفاية. إذن؛ فالمنع ليس لذات جنس النساء، بل لوصف الحال في ذات المقبل على تعلم العلم وطلبه من الرجال والنساء سواء بسواء، وعليه فما صنفه العلامة الألوسي رحمه الله في منع النساء من الكتابة في كتابه: " الإصابة في منع النساء من الكتابة " يحمل والله أعلم على هذا الوجه الشرعي والمقصد المرعي، وإن كنت لم أقف على الكتاب بعد، لكن تحسين الظن واجب علينا تجاه أمثاله من أهل العلم، وقد ذهب الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله في كتاب: " أعلام العراق " إلى غير ما ذكرته من الباعث لتصنيف الألوسي لكتابه هذا.
وجاء عند أبي نعيم في " حلية الأولياء " والذهبي في " سير أعلام النبلاء " أن سعيد بن المسيب رحمه الله لما زوج ابنته لأحد تلامذته، وبعد مضي زمن الإختلاء بينهم نهض لحضور درس والدها فقالت له: " اجلس فإن علم أبي عندي "، وإن كان في سند القصة مقال. وورد في عند القاضي عياض في " تدريب المدارك " أن بنت الإمام مالك كانت تحمل علم والدها بخلاف ولده، حيث كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يعتمد على تصحيحاتها في مجلس سماع الموطأ، وتستدرك هي من خلف الستارة على طلابه حين السماع. وذكر ابن الحاج في " المدخل " عن أشهب وهو من رجالات المالكية أنه حضره بيع الخبز بالخضروات في سوق مع جارية، فطلب منها بضاعتها المعروضة في السوق على أن يعطيها البديل في العشاء، فرفضت الجارية ذلك وجعلته من اليد باليد، فسأل أشهب عنها، فقالوا: هي جارية بنت الإمام مالك، السابق ذكرها.
وكان لأبي حيان الأندلسي بنت تدعى نضار، فاقت بنات عصرها، ونالت السبق في الحديث وسماعه، واللغة وآدابها، ورمت بسهم في مختلف فنون الشريعة الغراء حتى كان والدها يقدمها على ابنه حيان، فلما توفيت كتب والدها أبو حيان الأندلسي كتابا حافلا في ترجمتها وبيان سعة علمها وقف على نسخة منه، الحافظ ابن حجر العسقلاني كما ذكر في " الدرر الكامنة ". ومن طريف ما جاء في كتب تراجم فقهاء الحنفية رحمهم الله في ترجمة أبي بكر الكاساني رحمه الله فيه صنف كتابا اسماه بـ : " التحفة في الفقه " وكانت ابنته فاطمة تحفظ كتابه هذا، وقد تتلمذ عليه أبو بكر السمرقندي رحمه الله واشترطت فاطمة بنت أبي بكر الكاساني على نفسها أن لا يتقدم لها إلا من يشرح تحفة والدها معها، فشرحها أبو بكر السمرقندي وسمى شرحه بــ : " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " وعرضه على أبيها ففرح به وزوجه ابنته فاطمة، فسار المثل على لسان فقهاء الحنفية قولهم: " شرح تحفته فزوجه ابنته " .
وقد قال ابن طاهر السلفي رحمه الله في ترجمة تقية بنت غيث الأرمنازي، المدعوة بــ: ست النعم ، قال عنها: " ولم تر عيني شاعرة سواها " . وقد ذكر العماد الأصفهاني في " فريدة القصر وجريدة العصر " أن بعض الأفاضل كتب إلى ست النعم رحمها الله لما مدحت نفسها ، قال:
ولا كل من ترجوا لغيبتك حافظ ** ولا كل من ضم الوديعة يصلح
فكتبت إليه :
تعيب على الإنسان إظهار علمه ** أبالجد هذا منك أم أنت تمزح فدتك حياتي قد تقدم قبلنا ** إلى مدحهم قوم وقالوا فأفصحوا وللمتنبي أحرف في مديحه ** على نفسه بالحق والحق واضح أروني فتاة في زماني تفوقني ** وتعلوا على علمي وتهجوا وتمدح
ومن أعظم مناقب النساء بالجملة ما قاله الإمام شمس الدين الذهبي _ رحمه الله _ في " ميزان الإعتدال " : " وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها " . فهذه منقبة للنساء في رواية الحديث لم تكن للرجال قط، وعللوا ذلك: أن النساء ليس عندها في الغالب ما يحملها على الكذب في الرواية على رسول الله، واستدرك بعضهم على الذهبي مقولته هذه، وعلى كل حال فهي فخر للنساء. ويزيدهن فخرا إلى فخرهن معشر النساء أنه قد تخرج على أيديهن طائفة كبيرة من فحول الأئمة ومنارات الرشد ومصابيح الدجى، فقد أخذ كبار أهل العلم عن النساء ودرسوا عليهن، مالك بن أنس شيخ المذهب المالكي، وأحمد بن حنبل شيخ المذهب الحنبلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية فريد عصره، وابن قيم الجوزية فقيه زمانه، وابن حجر العسقلاني محدث وقته، وأبو سعد السمعاني النسابة الشهير، وابن عساكر الدمشقي المؤرخ الكبير، والذهبي حسنة زمانه، وابن الجوزي شيخ الوعاظ، وابن قدامة المقدسي صاحب المغني، وعبد الغني المقدسي صاحب الكمال في أسماء الرجال والعمدة، والمنذري صاحب الترغيب والترهيب، وابن طاهر السلفي صاحب الطوريات، وغيرهم كثير.
وأخيرا: ننبه إلى مقالة يتناقلها بعضهم عن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: " العلم ذكري" نعم؛ أخرج هذه المقالة جمع كالطبري في " تاريخه " و الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " والقاضي عياض في " الإلماع " و أبو بشر الدولابي في " الأسماء والكنى " وابن نقطة في " تكملة الإكمال " وغيرهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهر ي رحمه الله، لكن ليس بلفظ " العلم ذكري " ، بل بألفاظ تبين مراده من مقالته ، منها : " الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكور الرجال " . و رواية : " لا يطلب الحديث من الرجال إلا ذكرانها ولا يزهد فيه إلا إناثها " . والمقصود من قوله:
أولا: إما أن ذكور الرجال هم العاملون بالسنة النبوية، ومؤنثهم تاركوها، ويدل على هذا التوجيه ما أخرجه ابن طاهر السلفي في " الطوريات " بإسناد حسن، قال الزهري لأبي بكر الهذلي: أيعجبك الحديث؟ قلت: نعم، قال: أما إنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثهم، أما ذكور الرجال فهم الذين يطلبون الحديث والعلم وعرفوا قدره، وأما مؤنثهم فهم هؤلاء الذين يقولون: إيش تعمل بالحديث وتدع القرآن أوما علموا أن السنة تقضي على الكتاب، أصلحنا الله وإياهم ".
ثانيا: وإما أن الزهري رحمه الله _ استعمل أسلوب التذكير في الصياغة النصية لبيان شأن علم الحديث بالنسبة لبقية العلوم، وإلى هذا ذهب أديب أهل السنة ابن قتيبة الدينوري رحمه الله في كتابه " غريب الحديث " قال : " أراد الزهري أن الحديث أرفع العلم وأجله، كما أن الذكور أفضل من الإناث، فضرب التذكير والتأنيث مثلا " .
ومثاله: ما أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " وابن أبي شيبة في " مصنفه " وأبو بكر الدينوري في " المجالسة " من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال عن القرآن : " هو ذكر فذكروه ". أي: جليل خطير، فأجلوه بالتذكير، كما قال ابن الجوزي في " غريبه " وابن الأثير في " النهاية ".
ثالثا: أن علم الحديث صلف لا يطيقه إلا فحول الرجال، أصحاب الهمم الوقادة، ويعجز عنه مؤنث الرجال ممن لا طاقة لهم عليه، وعلى سبر علومه، وإلى هذا أشار ابن الصلاح رحمه الله في مقدمته الشهيرة في علم المصطلح، والذهبي رحمه الله في " تذكرة الحفاظ ". وفي معنى هذا قال أبو الفضل العباس بن محمد الخراساني: رحلت أطلب أصل العلم مجتهدا ** وزينة المرء في الدنيا احاديث لا يطلب العلم إلا باذل ذكر ** وليس يبغضه إلا المخانيث لا تعجبن بمال سوف تتركه ** فإنما هذه الدنيا مواريث
وكل هذه الوجوه مقبولة في الباب، ويؤكدها أن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله تلقى العلم على النساء وتخرج أيضا عليهن، فقد روى الزهري وتحمل عن جماعة من النساء كعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي من المكثرات عن عائشة رضي الله عنها؛ بل روى الزهري عن ثلاثة لم يرو عنهن غيره: فاطمة الخزاعية، و هند بنت الحارث الفارسية، وأم عبد الله الدوسية، كما في " المنفردات والوحدان " للإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله.
قال ذلك الفقير إلى مغفرة ربه: أبو شكيب عبد الله الصالحي، حامدا لله، ومصليا ومسلما على نبينا محمد وآله وصحبه.
--- محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ أبو شكيب عبد الله الصالحي حفظه الله | |
|
المجاهد
عدد المساهمات : 143 تاريخ التسجيل : 30/06/2011 الموقع : هداة الحق
| موضوع: رد: جهود النساء في طلب العلم 7/16/2011, 20:21 | |
| جزاكم الله خيراً ونرجوا المزيد
| |
|